دراسات ومراجعات في شعر سامر خير

"أعود مثل غيمة إلى الشجر"..
تحية للشاعر سامر خير: صوت شعري لا يتماهى مع أصوات شعرية سَبَقَتْه

* بقلم: رشاد أبو شاور *
(كاتب فلسطيني مقيم في عمّان)

بعض الأشخاص لهم من أسمائهم نصيب، قد يكون كبيرًا، بحيث نقول: اسم على مسمى، وبعض الأشخاص تتنافر أسماؤهم مع سلوكياتهم، وحظوظهم في الحياة، وملامحهم، التي ابتلوا بها. هذا يصدق أيضًا على عناوين الروايات، والمجموعات الشعرية، والقصصية، التي قد تضللنا بفخامة تلك العناوين، وادعاءاتها، ووعودها التي يفضحها واقع حالها، واكتشاف القارئ البريء أنه غُرِّر به، وسُرِق منه وقته ومالُه..
لكن بعض الكتب تحمل عناوين تعد وتفي، عناوين بسيطة، تُقَدِّم نفسها بتواضُع جَمّ، يُحتَسَب في نهاية "اللقاء" – أقصد القراءة – والتعارف للكتاب وصاحبه، فتنشأ صداقة بين الكاتب، المبدع.. والمتلقي، وهذه العلاقة تؤسس وتدوم على أسس متينة، وتتقوى بالحوار.
اعتدت كلما التقيت بقادم من فلسطين 48، أن أسأل عن الكتّاب والشعراء والفنانين الجُدُد الذين ظهروا هناك ولم تصلنا أعمالهم، ودافعي إيماني بأن الثقافة هي سلاحنا الذي يوحّد رؤيتنا، ويحدّد طريقنا، ويهدينا على هذا الطريق، ويصقل مشاعرنا، ويجمعنا رغم تباعدنا وتشرُّدِنا في بلاد الله الواسعة، والضّيّقة علينا..
بعد جيل الشعراء والقصاصين والفنانين الفلسطينيين، الذين استقبلنا نتاجهم عبر كتاب غسان كنفاني عن أدب المقاومة، وديوان الوطن المحتل الذي جمعه ونشره الشاعر الكبير يوسف الخطيب، انتظرنا بروز جيل جديد، ولكن الأصوات التي تابعناها تعثَّرت، أو انزوت أو وقعت في تقليد من سبقها.. لذا سُرِرْت وأنا ألتقي وأتعرف بشاعر ينتمي إلى أهلنا الصامدين في فلسطين الـ 48، هو سامر خير، بمجموعته الشعرية "أعود مثل غيمة إلى الشجر"، والّتي عرّفتني بصوت شعري لا يتماهى مع أصوات شعرية سبقته، وينأى بقصيدته عن ادّعاء العُمق، والتفلسف الفارغ، والتعمية على القارئ ليبهره بغموض مُفتَعَل..

عِشْ حياتَكَ
يا أيُّها الشاعِرُ
عِشْ حَياتَكَ دونَ مَرايا
مُكَسَّرَةٍ في الوَرَقْ
وَاعْبُرِ الوَقْتَ كَالرِّيحِ
لا حَيْرَةٌ أَوْ قَلَقْ
وَانْسَ قَبْلَ الغَرَقْ
ما يُخَبِّئُهُ البَحْرُ..
يا أَيُّها الشّاعِرُ
كُلُّ ما قُلْتَهُ:
عُمْرُكَ العابِرُ

هذه قصيدة "أُعبُر الوقتَ كَالرّيح"، شفافة وشجية، وأحسب أنها عميقة!
في العُمر العابِر للشاعر، أو لغيره من بني البشر المُدركين، يملأ العمر بكل ما هو لائق. ويعيش الشاعر، وغيره من بني البشر النبهاء، بانتباه، حتى في أبسط شؤون الحياة، وأقلّها قيمةً، لأنّها ذات معنى لو فكَّرنا فيها، ولو تأمّلناها مع غيرها من تفاصيل الحياة العابرة.

إِلى أيْنَ تَأْخُذُنا يا دُخانُ
إِلى أَيْنَ؟ مَنْ سَيَظَلُّ عَلى الأرْضِ مِنَّا
سِوى سادَةِ النَّارِ في لا مَكانْ؟
إِلى أَيْنَ تَأْخُذُنا يا دُخان
لِنَتْرُكَ أَجْسامَنا خَلْفَنا
وَأَرْواحَنا، ثُمَّ لا نَصِلُ البَحْرَ
إِلّا عِظامًا تَدُلُّ عَلَيْنا الزَّمانْ؟

أسْوأ ما تتعرض له القصيدة أن تجتزئ منها لتدلّل على كم أنَّها نقيّة، جميلة، جديرة بالمديح، وللأسف أجدني مضطرًا أن أفعل هذا، مع أن القصيدة "كتلة" واحدة، جسد واحد، روح من العسف أن تُمَزَّق لتُعرَض للناظرين علَّ شيئًا منها يلفت الانتباه ويُغْري..

قَتَلوني على قِمَّةِ الغَيْمِ يا أخوَتي
أَحْرَقُوا كُتُبي حِينَ خَبَّأَها الثّائِرونَ
قُلُوبًا مِنَ النَّارِ
وَاقْتَسَموا جُثَّتي في ثَلاثِينَ باخِرَةً
ثُمَّ أَلْقَوْا بِها في البِحارِ

أَلَيْسَ هذا هو حال الفلسطيني، الذي مزّق ووزّع على السُّفُن، وبدّد في البحار في ختام معركة بيروت، في حدث واقعي تشبهه الأساطير، ويمنحها بقسوته واقعية تجعلها قابلة للتصديق؟!
ولكن هذا الفلسطيني بشر سويّ، واقعي، من لحم ودم، وهو مع تمزق جسده ينهض من جديد، يقوم من موته، ويبعث حيًا، حاملًا بشارته وآيته:

.. سَأُطِلُّ مِن عَدَنٍ عَلى هذا الزَّمانِ فَلا أَرى غَيْرَ الفُؤوسِ
عَلى الرُّؤوسِ البورِ مُصْلَتَةً، وَلا أحدٌ سِوى القَتْلى. أَنا موجٌ
يُرَفْرِفُ في الغُيومِ، شُنِقْتُ ثُمَّ بُعِثْتُ. أَيْنَ يَفِرُّ مِن قَمَري
الطُّغاةُ؟ وَأَيْنَ يَخْتَبِئُ الغُزاةُ الخائِبونَ غَدًا؟

ومع هذه الرؤيا المنذرة، فالفلسطيني الذي لم يمت، يدرك أنه لم يصل بعد، ولذا تَراه وقد فتح عينيه على وسعهما، في مواجهة "الهول" الذي يعترض طريقه:
إهْدَئي يا سَماءُ قَليلًا
لِنَخْرُجَ في نُزْهَةٍ
أَوْ لِيَدْخُلَ بَعْضُ الهَواءْ
.. ألدُّخانُ الّذي يَتَهَيَّأُ كَالْغَيْمِ
هَلْ فيهِ ماءْ؟
هَلْ نُسَمِّي أَزيزَ المَدافِعِ
رَعْدًا؟ وَنارَ المدينَةِ بَرْقًا؟
إِذًا لَيْسَ مِنْ مَطَرٍ
غَيْرَ وَرْدِ الدِّماءْ
كَمْ أَريحا سَيُحْرِقُها يوشَعٌ
في أَريحا؟ وَكَمْ مَرَّةً
سَنَقولُ: الحَريقُ ضِياء
وَالقُبورُ
أَسِرَّةُ أَطْفالِنا الشُّهَداء؟

لا يتوقف سامر خير، الشاعر الفلسطيني عند أسوار أريحا القديمة، أو على تلتها المشرفة التي تحوي بيوتها القديمة، تلك التي تفصح عن المستوى الحضاري للكنعانيين العرب الفلسطينيين، أول تجمع بشري، يستوطن الأرض ويزرعها ويعيش في أُسَر وبيوت ذات مخازن للحبوب، مستأنسين ومدجنين للحيوانات التي تساعدهم على حرث الأرض..
دع يوشع في توراته، وانتبه إلى ما يفعل ورثته، الذين يتلمظون شبقًا لرؤية النيران تلتهم أبنية أريحا ونخيلها وبشرها لتحقيق "نبوءة" توراتهم وسفر حقدهم الذي كتبته عقول مريضة أدمنت الكراهية، ولنعد إلى الشعر البسيط الإنساني الذي تجيش به نفس فُطِرَت على حبّ الأرض والحياة والتشبث بالكرامة..
في قصيدة "أشخاص" نقرأ:
.. أحمدٌ لاجِئٌ مِنْ جَبالْيا
يُعَلِّمُهُ المَوْجُ حِكْمَتَهُ كُلَّ يَوْمْ
فَيَهُبُّ عَلى رَمْلِهِ عَبَثًا:
لَيْسَ في يَدِهِ غير دَمْ

عُمَرٌ مِنْ رَفَحْ
كادِحٌ كَالمِياهِ عَلى صَخْرَةٍ
أَمْسِ غادَرَ مَنْزِلَهُ كَالسُّنونو
لِيَصْطادَ بَعْضَ الفَرَحْ
لِلْفِراخِ.. وَلكِنَّهُ ما نَجَحْ
...
خَلْفَ سُورِ النَّهارِ انْذَبَحْ

هكذا يرسم سامر خير حياة الفلسطينيين على جزء من بحرهم.. في مخيمات غزة ومدنها. إنها حياة كفاح وموت ودم، إنها ملحمة الإنسان الفلسطيني في زمن ورثة يوشع بن نون!
في هذه المجموعة الحميمة نقرأ شيئًا عن تجربة سامر خير في السجن:
زنزانةٌ كالرَّحْمِ
سَجَّانٌ مِنَ الكَرْتونِ
مَسْجونٌ مَعي

ونقرأ:
ماذا يفْعَلُ سامرُ في السِّجْن؟
ماذا يفعَلُ؟
يَكْسِرُ قُضْبانَ التَّوراةِ
وَيَخْرُجُ لِلدَّاخِلِ
يَتَذَكَّرُ عاشِقَةً تَبْني الأحْلامَ عَلى فَخْذَيْنِ
وَأُمًّا لا تَتْرُكُ غُرْفَتَهُ
تَنْتَظِرُ الصَّوْتَ الضُّحَوِيَّ
تَصُبُّ القَهْوَةَ لي
لكن.. تَشْرَبُها

بشعر بسيط بسيط، عميق عميق، قريب إلى القلب، يهزّ الوجدان، يشجي ويبكي، ويفعم النفس بالغضب.. نكسب شاعرًا لا يُقَلِّدُ غيرَهُ، له صوته وشخصيّتُه، هَمُّه أن يتواصَل مع قارئه..
الشعر لا يُحدّد ولا يُعرَّف ولا يستنسخ، وفضاء الشعر فسيح، لا مُتناهٍ، وفي رحابته الرحبة تتجاوب أصوات الشعراء، وتجعل حياتنا أجمل وأغنى وأكثر إنسانيّة..
ما كتبته ليس نقدًا، لا يدَّعي ذلك.. إن هي إلّا تحيّة لصوتٍ نقي، دافئ، يضيف لشعرنا – من وجهة نظري كقارئ – ويحرّضني على السؤال عن مزيد من المبدعين الذين لم تصلنا إبداعاتهم.. من هناك، من عمق وطننا فلسطين، ومن المنافي البعيدة، لأن هذه الأصوات هي التي تنسج نشيد الصعود الفلسطيني..
(نُشِر هذا المقال في أكثر من صحيفة في العالم العربي، أواخر عام 2002)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق