حوارات مع الشاعر سامر خير

صدر ديوانه "اعود مثل غيمة إلى الشجر" عن المؤسسة العربية..
سامر خير: أنفر من الشعر المُحلِّق في فضاءات بعيدة عن الأرض، ولا ألجأ إلى الرمز في شعري


* حاوره:  جهاد هديب *

ثمة أصوات في الشعر الفلسطيني تضع مستقبله في موقع التساؤل ليس من جهة تعدد هذه الاصوات وتوزعها في موطنها والشتات بل إن هذا التساؤل يربطه بسؤال "الالتزام" الانساني بواقعه مثلما يربطه بسؤال الشعر في جوهره.
في فلسطين المحتلة أربعة اجيال من الشعراء (بحسب التوصيف التأريخي للادب) الأخير بينها انصنعت ذاكرته وصيغت مخيلته في الفترة التي تشهد عنفوان الاحتلال، والمتأمل بعض المنجز الشعري لهذا الجيل يلحظ ذلك القدر المروع من الخيبات الى الحد الذي ذهب فيه الشاعر الى التعبير عن قضيته بوصفه ذاتا تواجه العالم وتصرخ في وجهه من فرط ما تتألم.
الشاعر سامر خير صوت يطل من فلسطين المحتلة عام 1948 وينتمي الى الجيل الرابع من شعراء فلسطين وقد أسهم في إنجاز صدقية للتوصيف في الأسطر السابقة وقد صدر ديوانه الثامن "اعود مثل غيمة الى الشجر" مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، وبمناسبة هذا الصدور كان للدستور معه هذا الحوار:
*
عندما اقرأ لك أشعر كما لو أن العالم من حولك ولشدة ضيقه فانك تصنع ذاتا لك في القصيدة؟
-
نعم، فهذا أحد الدوافع الغامضة للكتابة بشكل عام لكن في حالتي تزداد ضرورة اختراق الحصار والضيق أكثر، وتشتد الحاجة للقول: ها أنا موجود، حي، أتحرك، وأؤثر.
الشاعر يعيش حياتين: حياته العادية وحياته في النص، وحياته الثانية هذه تأكل من حياته الاولى. في حياته الاولى هو فرد من مجموعة وفي الثانية هو مجموعة في فرد، وقضية خلق الذات التي أشرت إليها في مكانها فأنا يهمني ان يكون مشروعي الشعري ذا قلب نابض وعيون ترى وعقل يتأمل، لا مجرد صورة جامدة، وهذا يتطلب جهدا وألما ومعاناة في استيعاب التجربة وما توحيه اللحظة الراهنة، هذه اللحظة الحبلى بكل ما مضى لكنها يجب ان لا تلد غير المستقبل أنا لا أكتب إلا في لحظات التجلي الذاتية الصادقة الصافية والواعية، أكره الإنشاء، وارمي القلم إن لم يكن حبره دمي.
*
هل هذا أحد جوانب الخطاب الشعري للجيل الجديد الذي تُمثله في الداخل؟
- كان الخطاب الشعري الفلسطيني السائد - وما زال - خطابا جماعيا بلسان جماعي، أنا أريد أن ألقي الضوء على الذات الغائبة في جلبة القضايا الكبرى وأن أتحدث بلسان فردي ذاتي، في رأيي ان القضايا والمهمات الشعرية الكبرى تبدأ من الذات، هذه الذات المغيبة على صعيد المجتمع والوضع السياسي، وحتى على صعيد الشعر للأسف لقد وجدت كنزا لا في السماء ولا تحت الارض بل على الارض معي وحولي وفيّ، عنوانه الصدق واستيعاب ما انت وماذا تريد، انا انفر من السير الشعرية المحلقة في فضاءات بعيدة عن الارض، لا ارى سببا لها سوى القيود المفروضة على المبدع والتي تحد من حريته فيلتجىء الى الرمز والتحليق.
الرمز يجب ان يكون جزءا حيا في القصيدة وليس وسيلة اختباء وتحايل وتجنب مخاطر قد تنشأ عن الوضوح، الغموض لدى الشاعر حاجة شعرية لا طاقية اخفاء كي لا يناله الاذى في حياته الخاصة اليومية . انا متحرر - نوعا ما - من هذه القيود وعندما اكتب اكون حرا حتى النهاية ولا اعمل حسابا لأحد. هذا يساعدني في مهمة خلق الذات التي تخترق الضيق الذي اعيشه وآمل ان يوفقني الله في ذلك.
*
في شعرك يصغي المرء الى صوت لا يذكّر بغيره، هل تعتقد أنك أنجزت صوتك الخاص تحديدا من ديوان "لن يعيش حياتي سواي"؟
-
قبل "لن يعيش حياتي سواي" أصدرت مجموعة سميتها "لم اولد لاموت" احتوت على بذور خصوصيتي الاولى كما اعتقد، وما زلت اذكر ظروف تلك التجربة التي سعيت خلالها بوعي كامل الى نفض كل ما يواجه الشاعر الشاب من تأثر بشعراء سبقوه. كنت اقول لنفسي ان عليّ ان اقول ما لا يمكن ان يقوله احد سواي وبطريقتي انا ولا يهم ان اعجب الاخرين ام لم يعجبهم، هذا الامر يتطلب مني الصدق الكامل وطرد كل اشباح الماضي من رأسي، واخذت اكتب الشعر متخيلا نفسي اول شاعر يكتب الشعر على الارض، وما زالت هذه حالي كلما راودتني قصيدة عن نفسي، هاجسي هو الكتابة انطلاقا من الواقع نفسه والتجربة الراهنة نفسها بما أراه وما أعيه دون تدخل غير مرغوب فيه لنصوص وتجارب اخرى وان اقول ما لا يقوله احد غيري معنى وشكلا. واعتقد ، نعم، ان "لن يعيش حياتي سواي" كانت - بهذا المعنى- مجموعتي الشعرية الاولى، مع اعتزازي بكثير من القصائد في المجموعات التي سبقتها.
*
تتعدد المناخات في شعرك، ثمة ذلك النسيج الذي تصنعه الذات الشاعرة والتناغم بين العام والخاص..
-
انت لست ذاتك فقط، وانا كذلك، انت تختلف عني وانا عنك، تصور لو اننا نعود ثلاثين عاما الى الوراء فتأخذ انت مكاني في الوطن وانا مكانك على اغصان الحنين الى الوطن. إذًا لكنت شخصا اخر الان. الانسان صنيعة الظرف المكاني والزماني وليس ذاتا منفردة فحسب . نعم، هنالك في شعري نسيج من التناغم بين العام والخاص، لا احققه عمدا وعن سابق اصرار بل هو ناتج عن صدق مع الذات. انا مفرد وجمع في آن معا. حين اكتب لا اقول لنفسي سأكتب الان عن قضية خاصة او عامة، بل امطر كالغيم تجربتي الخاصة التي هي نتاج تجارب مائية تمتد من البحر الى النهر الى المستنقع والى قطرة ندى سقطت عن زهرة قبل ان تتبخر والى ريق فتاة جميلة تصبب منها عرقا نقلته الشمس هواء الى غيمة عابرة .. انا الغيمة العابرة وحين أكتب لا أعي ما أكتب سوى انني اعرف انني أتناسخ في جسد هذه الورقة المستسلمة لقلمي، انني احلم -  أو أموت ان صح ان النوم نوع من الموت المؤقت - ثم انبعث من جديد لارى واراجع ما كتبت. قالت العرب قديما: أعذب الشعر أكذبه، فهل لي أن أقول: بل أصدقه؟ فالصدق هو الكفيل بالتناغم العفوي غير المتكلف بعد التمكن من أدوات الشعر طبعا.
*
يحتاج الشعر إلى ثقافة رفيعة.. وبات انتاج الصور يستدعي انفتاحا كبيرا على الفنون الاخرى. أشعر عندما أقرأ قصيدة لك بأنني أرى لوحة تتصل أحيانا بالتاريخ؟
-
أحيانا في لحظة تأمل قد تستمر ثانية فقط، أرى صلاح الدين الأيوبي يرفع أعلام النصر في سهل حطين أو على أسوار القدس، أو أرى جدي في صفوف الثوار أو أرى يوشع بن نون يحرق أريحا، لا اراهم بعيدين بل اراهم فيّ. انا لست آدم، اول انسان على الارض، آدم هو الانسان الوحيد الذي خلت ذاته من ذوات اخرين سبقوه. لكن من المؤسف أن الثقافة الاستهلاكية المسيطرة على العالم تخلق افرادا منقطعين عن التاريخ، وحتى عن الظروف الموضوعية الراهنة. في لحظة من حياتي كان علي بدء استيعاب حالتي الوجودية فأنا نتاج لأعداد هائلة من البشر والحضارات التي بعضها اندثر، ونتاج لحظة راهنة عصية على امكانية استيعابها الكامل لما فيها من تشعبات وتناقضات وغموض. أنا أنفر من اقحام الرمز الاسطوري او التاريخي في النص سيرا على "الموضة" بل أعتمد العفوية في ذلك. برأيي ان على الشاعر ان يسعى لاكتساب ثقافة جامعة ما أمكنه ذلك، دافعها الاكتشاف ووعي الذات ونتاج من وماذا هي، دون ان يكون الهدف المسبق من التثقيف الذاتي هو البحث عن رموز واحداث يمكن استعمالها في النص. أنا مولع بقراءة تاريخ الناس القدامى واستيعاب اللحظة بكل تشعباتها لأحاول التحدث بصوت انطلق من فم اول انسان خطا على الارض وما زال مدويا من ملايين الافواه الاخرى الى الان.
مهمة الشاعر في رأيي هي ان يقول هذا الصوت العظيم بطريقته هو وهذا يتطلب ثقافة عالية بدون شك.
*
ماذا ستجني من شعر تكتبه، هل ثمة أشياء أخرى غير الخسارة والألم؟
-
كما تلاحظ للفعل "جنى" بالعربية معنيان، فأنا "أجني" على نفسي ولا "أجني" من ذلك سواها، انني أربح نفسي، وأخسر بالمقابل أشياء كثيرة. الكتابة قضية شخصية جدا بالنسبة لي ففي أغلب الأحيان انا اكتب كي انقذ نفسي مما يقتلني رويدا رويدا في داخلي. ان لم اكتب فانا اختنق واكتئب ، الشعر هو مبرر وجودي على قيد الحياة إن فقدته أموت حيا أو ميتا، ولا ذنب لأحد في ذلك، قيل قديما: ما ينفع الانسان لو ربح العالم وخسر نفسه؟ انا أربح نفسي ولا يهم إن خسرت العالم في نهاية المطاف، لكنني رغم ذلك احاول دائما أن لا تكون خساراتي كبيرة بما يضمن لي حياة مستقرة ومريحة، لكن الألم والحزن هما سيدا الشعر الفَرِح أبدًا، وأعتقد أن خسارات الشاعر العربي بالذات فادحة جدا في هذا الزمن الصعب، مقارنة بغيره من شعراء بعض الشعوب الاخرى الذين يتلقون من بيئتهم تجاوبا معهم وتقديرا أكبر لهم في حياتهم.
*
"اعود مثل غيمة الى الشجر".. ماذا بعد؟
-
أشعر دائما مع طباعة كل مجموعة جديدة ان الكتاب جنازة أشيع بها قصائدي وأشعر فجأة بفراغ ويأس لا أتغلب عليهما الا بإنجاز قصائد اخرى يجب ان تكون مختلفة وجديدة وإلا مزقتها. هناك تجربة جديدة - كما اظن - في الافق، أنجزت منها حتى الان بضع قصائد ولدت جميعها منثورة غير متقيدة بأي وزن. ففي الفترة الاخيرة بت أضيق ذرعا بالتفعيلة أحيانا كما ضقت ذرعا - أول طلعتي - بالشعر العمودي. في النثر الشعري حرية كيبرة لنزف أكبر قدر من حبر الدم، لكنني لا أعتقد أنني سأغادر طريقة التفعيلة تماما، بل سأدعها تطرق بابي متى شاءت دون أن أدعوها.
"أعود مثل غيمة إلى الشجر" مجموعة لها نكهة خاصة في نفسي فهي أول مجموعة لي تصدر في العالم العربي خارج فلسطين، لكنني اشعر بأنني لم اكتب شيئا حتى الان وسأظل آمل انجاز تلك القصيدة الرائعة القادمة فأجمل القصائد تلك التي لم تكتب بعد.
(نُشِر في "الدستور" الأردنية، 7 تشرين الثاني 2001)



.................................................................................................................................................. 


الشاعر سامر خير:
عندما أكتُب أستقيل من وظيفة حياتي العاديّة

* حاوره:  تيسير النجار *

*
لنبدأ بجدوى كتابة الشعر في زمن اللاشعر؟
-
قصتي مع الشعر شخصية جدًا، فأنا أكتب لأنقذ نفسي مما أشعر أنه يكاد يقتلني من الداخل. إذًا فقدري هو كقدر الحامل التي ليس أمامها إلّا أن تلد بعد جهد ومعاناة. الشعر – بهذا المعنى – ضرورة محض ذاتية، لا تأبه بالظروف السائدة في الواقع، لكن رغم ذلك ستبقى هناك غصة في قلب الشاعر ودَمُهُ ينزف في زمن لا يُقدِّر نزيفه كما ينبغي، وفي زمن اللاشعر كما قُلتَ. لكن بالنسبة لي، زمن الشعر حاضر أبدًا، ولولا ذلك لوضعتُ حدًا لنزيف قلبي.
ما يبدو أنه زمن اللاشعر قد يوفِّر في رأيي أشدّ الدوافع لدى الشعراء الحقيقيين لقول الشعر، بما يضمن التوازن في هذا العالم الذي تحكمه المادة والاستهلاك وما ينتج عنهما من هشاشة وسطحية. لا بأس لو كان قدر الشعر الآن أن لا يحظى بكثير من الإقبال، لكنها في نظرة مرحلة عابرة مهما طالت، وتبقى قيمة الشعر إبداعية وجمالية وتاريخية، تؤرِّخ للحزن والفرح والرؤى والأحلام ولجدوى وجودنا على هذه الأرض. في هذه الظروف تكون خسائر الشاعر كبيرة، لكن عزاءه أنه يربح نفسه.
*
إذًا ماذا عن ارتباط الشعر بالألم والمعاناة في تجربتك وإنتاج نصك؟
- غالبا ما ينتج الشعر عن ألم وحزن، لكنه ينتج عن الفرح في حالات كثيرة. أما عملية الولادة الشعرية ففيها نصيب من المعاناة والجهد. بالنسبة لي، عندما أكتب فأنا أستقيل لعدة لحظات من وظيفة حياتي العادية، في سياق زمني خارج الزمن الموضوعي نفسه، وفي مكان لا تحدده أبعاد المساحة المعروفة.
قد تمضي ثلاث ساعات كأنها ثلاث دقائق، أسكب خلالها روحي على الورق في لحظة صفاء وتجلٍّ. ساعة الوضع، إذًا، قد حانت. بعد فترة ما من استيعاب التجربة والوجود. إذا شعرت بأنني أكرّر نفسي أتوقف عن الكتابة. أستمرّ عندما ألمح عطر الجديد المفاجئ، وعندما أنساب هادئًا كنهر، وأشعُر أنني صادق في ما أكتبه حتى النهاية، كأن اختمار التجربة يتفجر كلمات وأحرفًا ومعانيَ متناثرة، وعليّ اصطياد أكثر ما يمكن من التفاصيل "المُلقاة على قارعة الطريق" لأنني لن أعود إلى هنا مرةً أخرى. عندما أنتهي من الكتابة أضع ما أنجزته جانبًا ثم أعود إليه فيما بعد لأراجعه وأحرِّرَه بوعي كامل، فغالبًا ما أشطب أو أضيف أو أغيِّر ترتيب الجمل والكلمات، دون المسّ بعفوية النصّ، بل إن هذه العفوية تنال لديّ الأهمية الأولى عند التنقيح.
*
قصيدتك.. أهي سؤال نحو وجودك وماهيته أم نحو ماذا؟
-
كأنّك - بهذا السؤال – أخذت الجواب مني قبل أن أجيب، فأنا أخوض على الدوام عملية اكتشاف جديدة لنفسي ووجودي وللكون. كثيرًا ما تنتابني حالة الطفل وهو يحاول ترتيب ما يراه ويسأل نفسه عما يقف وراء الظواهر المختلفة من علل ونتائج. بالنسبة للإنسان العادي – ولي أيضًا حين أكون خارج زمن الشعر – يبدو الكون ثابتًا على شكل ما ليس من الوارد أو من الممكن أن يتغيَّر، وتبدو كل الأشياء وما يربط بينها من علاقات طبيعية جدًا، بما في ذلك الشخص نفسه بين مجمل هذه الأشياء. في رأيي ان جوهر الشعر هو هذه القدرة الدائمة على الدهشة. كذلك يفعل الطفل والفيلسوف. لو رأى طفل في الأشهر الأولى من عمره ماءً ينساب صعودًا لا نزولًا – على سبيل الافتراض – لكان تعامل مع ذلك كشيء جديد يتعلمه عن هذا العالم الغريب، فبالنسبة له لا توجد قواعد تحكم هذا العالم. لكن عندما يكبر تكون "قوانين العالم" بالنسبة له تحددت تمامًا في كل المجالات، ليس الفيزيائية فقط بل الاجتماعية والسياسية والفكرية.. إلخ. أما الشاعر فهو في حيرة دائمة، ليس بخصوص وجوده وماهيته فقط، بل بخصوص ماهيّة الوجود كله بشكل عام.
*
ماذا عن قصيدة الانتفاضة بين الرفض والقبول الإبداعي؟ وماذا عن صوت الحجر الذي يوقظ أبيات الشعر؟
-
هذا السؤال يذكّرني بالنقاش حول شعر المقاومة، والذي يُثار كلما نهضت من جديد المقاومة الشعبية للاحتلال. نحن الآن في خضم انتفاضة شعبنا الثانية، لكن دعنا نعود إلى الانتفاضة الأولى قبل نحو عقد من الزمان، ونسأل أنفسنا: ماذا بقي من آلاف قصائد "المقاومة" التي كُتبت في ذلك الحين؟ وقد نسأل أنفسنا السؤال نفسه أيضًا بعد عقد من الآن. برأيي ان شعر المقاومة الفلسطيني انطلق منذ أول فعل مقاومة على الأرض، بل قبله وكان ممهّدًا له. لكنه – أي الشعر – لا ينبغي أن ينهض من سباته فقط إذا ارتفع صوت الحجر. إن أجمل قصائد كومونة باريس كُتبت بعد خمسين سنة على الكومونة. الآن يمكننا كتابة قصائد النكبة الفلسطينية. لا تهم الشعر الأحداث والتفاصيل العابرة، رغم أهميتها الشديدة خارج سياق الشعر. والمقاومة الشعرية – في رأيي – لا تواجه الطائرة والدبابة والبندقية فقط، إنها تواجه المساحيق التي تغطي تجاعيد الوطن أيضًا، وتواجه من يعتدي على الروح لا على الجسد فقط. وأدعو من لا يستيقظ إلّا عندما يزعج صوت الحجر سباته إلى مواصلة النوم والأحلام السعيدة، علّ في ذلك خيرًا له ولنا لأن المهمة أكبر بكثير مع كل الاحترام.
*
أخيرًا، يقول هولدرين: "ما يبقى يؤسسه الشعراء"، فماذا عن هذه المقولة لتجربتك، وماذا أسَّسَت؟
-
هذه المقولة قد تعني أن الشعراء يستشعرون ما هو باقٍ وخالد. لكنَّها أيضًا تولي الاستشراف أهميّة كبرى في الشعر. الاستشراف ليس بمعنى التنبؤ فقط بل التأسيس لواقع آخر مأمول، شعريًا. وفي رأيي ان كل شاعر حقيقي لا بدّ أن يكون مقتنعًا – بصورة ما – بأنه يفعل ذلك أو يجب أن يفعل ذلك. بالنسبة لي ما زال المأمول أكبر مما أنجزتُه حتى الآن. وإن أتيحت لي الفرصة للتحدث عمّا أرغب وأريد أن أؤسس له أقول إنه العالم الحُرّ الخالي من كل أشكال القمع والكبت. وإنه العيش الكريم الذي يكفل القيمة الإنسانية لكل إنسان بغض النظر عن موقعه في التراتب الاجتماعي أو السياسي العابِر. وهذا يتطلب من الشاعر طريقة بوح أخرى تتأقلم مع ما يطمح إلى التأسيس له، وأشكالًا أخرى من التعبير بعيدة عن اليقين التام والفصل القاسي. إنها كتابة أخرى يجب أن لا تتقيد بأي قيد مهما كان مقدّسًا بالسطوة أو بالغيب، كتابة حرة من أجل إنسان حُرّ ووطن حُرّ لا يكون فيه هم اللقمة أكبر وأول هموم الإنسان.
(نُشِر في "العرب اليوم" الأردنية، 22 تشرين الثاني 2001)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق