الثلاثاء، 20 ديسمبر 2011

ألعراقيب / سامر خير


(إِلى أيمن عودة)





في العَراقيبِ

مَنْ في العَراقيبِ.. هُمْ آخِرُ العابِرينَ

مِنَ البَدْوِ – بَعْدَ اليَهودِ القدامَى..

وَلكِنَّ لِلدَّهْرِ حِنْكَتَهُ

فَلِمَنْ عَبَروا قَبْلَ أَلْفٍ وَأَلْفٍ وَأَلْفَيْ سَنَهْ

زَمَنٌ حاضِرٌ. ولِمَنْ عَبَروا قَبْلَ ثانِيَتَيْنِ خِيامْ

وَالخِيامُ مُخالفَةٌ لِلْقَوانينِ أَيْضًا

فَلَمْ يَبْقَ إِلّا الرِّمالُ مَصاطِبَ

وَاللَّيْلُ سَقْفًا

يُغَطِّي النِّساءَ وَأَطْفالَهُنَّ..

وَلكِنَّ لِلدَّهْرِ حِنْكَتَهُ

فَعَلى الصُّبْحِ تَخْرُجُ عَنْقاءُ

مِن بَيْنِ جَمْرِ الرُّكامْ

مِنْ جَديدٍ

كَأَنَّ البُيوتَ الَّتي هُدِّمَتْ

لَمْ تَكُنْ في العَشِيَّةِ

كَوْمَ رَمادٍ

وَظِلَّ ظَلامْ



إنَّها قِصَّةٌ تَحْدُثُ الآنَ فَوْقَ رِمالِ النَّقَبْ

لا أُحَدِّثُكُمْ عَنْ أَساطيرِ فينيقَ

أَوْ سِندِبادَ وَعَنْقائِهِ..

قِصَّةٌ مِثْلُ غَسْلِ الوُجوهِ صَباحًا

حَقيقِيَّةٌ. مِثْلُ حَرْقِ الحَطَبْ

في وُجاقاتِكُمْ في لَيالي الشِّتاءِ

حَقيقِيَّةٌ. مِثْلُ عِقْدِ ذَهَبْ

لِلْعَريسِ يُعَلِّقُهُ فَوْقَ صَدْرِ عَروسَتِهِ في الرَّبيعِ

حَقيقِيَّةٌ. وَحَقيقِيَّةٌ كَالكَذِبْ

في زَمانِ العَجَبْ



وَالعَراقيبُ جَمْعٌ لِعَرْقوبَ صاحِبِ عَرْشِ الكَذِبْ

رُغْمَ أَنَّ أَهالي العَراقيبِ لَمْ يخلفوا وَعْدَ حُرٍّ. وَلَكِنَّهُمْ خُدِعوا مِن أُلوفِ العَراقيبِ، مِنْ طيبَةِ القَلْبِ في رَمْلِهِم وَحَفاوَتِهِم بالغَريبِ إِذا ضافَهُمْ يَفْرِشونَ لَهُ غَيْمَهُمْ، يَذْبَحونَ لَهُ يَوْمَهُم، وَيَصُبُّونَ قَهْوَةَ أنْفاسِهِمْ مُرَّةً كَالسَّعادَةِ قَبْلَ الطَّعامِ وَبَعْدَ الطَّعامِ. فَيَبْتَسِمُ اللَّيْثُ، تَبْرُزُ أَنْيابُ جَرّافَةٍ بَيْنَ فَكَّيْهِ، يَفْتَرِسُ الغَيْثَ وَالزَّرْعَ، يَهْدِمُ أَمْواجَ صَحْرائِهِمْ. إنَّما الدَّهْرُ أَمْكَرُ. يَخْلفُ أَهْلُ العَراقيبِ وَعْدَ الرَّحيلِ وَيَبْنُونَ فَوْقَ الرَّمادِ اللَّهَبْ!

وَالعَراقيبُ جَمْعٌ لِعَرْقوبَ لكنَّ أَهْلَ العَراقيبِ لا يَخْلفونُ سِوى وَعْدِ طارِدِهِمْ أَنْ يُشَرِّدَهُمْ

لا يَخْلفونَ سِوى لِسَبَبْ

وَالَّذي جاءَ يَقْلَعُ نَخْلَتَهُمْ

لَمْ يَنَلْ غَيْرَ شُدْهِ العَجَبْ



.. يا أَخي قُلْ لَهُمْ

يا أخي في الكِفاحْ

إِنْ جُرِحْنا نُدافِعُ عَنْ دَمِنا

بِالجِراحْ

إنْ سُجِنَّا

فَبِالسِّجْنِ دُونَ هَواءٍ

نُدافِعُ عَنْ حَقِّنا في الرِّياحْ

إِنْ قُتِلْنا

فَبِالْمَوْتِ مِثْلَ الطُّيورِ

نُدافِعُ عَنَ حَقِّنا في الحَياةِ

بِأَلْفِ جَناحْ

فَهُنا قَدْ وُلِدْنا

وَهُنا سَوْفَ نَبْقى

وَهُنا صامِدونَ

وَلا مُسْتَراحْ

يَفْهَمُ الرَّمْلُ هذا

وَيَعْجَزُ عَن فَهْمِهِ

عاقِلٌ ليْسَ مِنْ مَنْطِقٍ عِنْدَهُ

غَيْرَ لَغْطِ السِّلاحْ



في العَراقيبِ

أَهْلُ العَراقيبِ.. ناموا هُنا في العَراءِ

مَعَ الذِّئْبِ يُنْشِدُ لامِيَّةَ الشَّنْفَرى

ثُمَّ عادوا لِيَبْنوا مَنازِلَهُم
في الصَّباحْ!

الثلاثاء، 11 أكتوبر 2011

نارٌ على ثَلْجِ الرَّماد


.. مُتَضَرِّعًا لِلهِ في مِحْرابِ مائِدَتي

بِأَنْ يُعْطِي الحِسابَ كَنادِلٍ في مطعَمٍ

لِلْمُتْخَمينَ بِمُتْعَةٍ سادِيَّةٍ

وَأَنا الطَّعامْ

خَرَجَتْ إِلَيَّ مِنَ الجِدارِ مَلاعِقٌ أُخْرى

لِتَأْكُلَني وَتَلْحَسَ مَا تَبَقَّى مِنْ عِظامْ

في صَحْنِ تابوتي المُقَعَّرِ كَالسَّفينَةِ دُونَ بَرٍّ

غَيْرَ أَنْ أَجْري وَأَخْرُجَ مِثْلَ يُونُسَ مِنْ سَراديبِ الظَّلامِ

وَأَكْسِرَ الأَطْباقَ فَوْقَ رُؤوسِهِمْ وَكُؤوسِهِمْ..

يا أَيُّهذا الحاكِمُ العَرَبِيُّ وَالعَجَمِيُّ لا فَرْقٌ لَدَيَّ

كِلاكُما حُوتٌ وَلكنْ ظُلْمُ ذي القُرْبى أَشَدُّ

عَلى جِراحي مِنْ مُقارَعَةِ الحُسامْ

وَلَقَدْ عَقَدْتُ العَزْمَ أَنْ أَلْوي يَدَ الدَّهْرِ اللَّعينِ

وَ لَوْ خَرَجْتُ مِنَ القَصيدَةِ كَوْمَةً

منْ بَعْضِ لَحْمٍ أَوْ كَلامْ

وَيَدي عَلى بَعْضي رُكامْ

وَفَمي حُطامْ

لا رَغْبَةٌ لي في زَمانٍ لَيْسَ لي فيهِ زَمانٌ

لَيْسَ لي فيهِ مَكانٌ لَيْسَ لي فيهِ احْتِرامْ

لا رَغْبَةٌ لي في مَكانٍ لَيْسَ لِي فيهِ نَدًى تَحْتَ الغَمامْ

فَلَكُمْ إِذًا أَنْ تَحْسِبُوها جَيِّدًا

أَنْ تَفْحَصُوا إِنْ ظَلَّ في مَعْمورَةِ الرَّأْسْمالِ

مَنْ يَجْثُو عَلى أَقْدامِكُمْ

كَالسَّيْفِ أَوْ كَالْخَوْفِ قَبْلَ الإِنْتِقامْ

قَبْلَ انْتِقامِ الضَّعْفِ مِنْ عُنْفِ الحِرابْ

وَلَكُمْ إِذًا أَنْ تَدْرُسُوا الوَضْعَ الجَديدَ

بِما تَبَقَّى لِلْعُيونِ العُمْيِ في صاروخِكُمْ

مِنْ يَأْسِكُمْ وَفِصامِكُمْ قَبْلَ الغِيابْ

فَأَنا كَوابيسُ الطُّغاةِ

أَنا مُبيدُ نُجومِكُمْ مِثْلَ الذُّبابْ

وَأَنا المُلَغَّمُ مِثْلَ بابْ

يُفْضي إلى سَقَرٍ لَكُمْ في وَقْتِنا

وَتُبَدِّلونَ جُلودَكُمْ فيها

إِلى ما شاءَ رَبُّ الثَّائِرينَ

أَنا العَذابُ أَنا العِقابْ

لَمْ تُبْقِ لي يا قاتِلَ الأَطْفالِ في أَرحامِهِمْ

لَمْ تُبْقِ لي غَيْرَ السَّرابْ

لَمْ تُبْقِ لي غَيْرَ الغُرابْ

لَمْ تُبْقِ لي غَيْرَ التُّرابْ

فَخُذِ السَّرابَ خُذِ الغُرابَ خُذِ التُّرابْ

وَاخْرُجْ سَليمًا ما استَطَعْتَ سَبيلَ عُنْقِكَ

قَبْلَ زِلْزالِ التَّحاشُدِ والتَّحاشُرِ وَالحِسابْ

لَنْ يَفْلِتَ القَصْرُ المُحَصَّنُ مِنْ جُيُوشِ بَراعِمي

فَانْظُرْ لِوَجْهِكَ في المرايا لا تَجِدْ إِلّا اليَبابْ

يا أَيُّهذا الحاكِمُ العَرَبِيُّ وَالعَجَمِيُّ لا فَرْقٌ لَدَيَّ

كِلاكُما حُوتٌ.. وَمِنْ رَمْلٍ خَرَجْتُ

وَها أَنا أَمْضِي إلى مُدُنِ الضَّبابْ

لا أَرْضَ لي لا قَوْمَ لي لا جِنْسَ لي لا إٍسْمَ لي

إلَّا ابْنُ آدَمَ أَرْضِيَ الأَرْضُ الكُرَيَّةُ في الفَضاءِ

وَقَوْمِيَ البَشَرُ التُّرابِيُّونَ مَجْبولونَ مِنْ ذَهَبِ السَّحابْ



.. وَأَنا أُحَدّقُ في السَّماءِ كَمِثْلِ أُمِّيٍّ

لِأَقْرَأَ ما تُسَطِّرُهُ النُّجومُ سُدًى، هَبَبْتُ

وَسِلْتُ مِثْلَ دَمٍ عَلى جِلْدِ السَّليقَةِ:

لَيْسَ لي في الدَّرْبِ إلّا ما اعْتَمَرْتُ مِنَ النِّعالْ

لا شَيْءَ يَرْبِطُني بِنَجْمٍ لَيْسَ فِيَّ وَلَسْتُ فيهِ

هُنا الوِلادَةُ والشَّهادَةُ والمَآلْ

وَهُنا البَقاءُ عَلى الفَناءِ

هُنا العَلاءُ عَلى الخَواءِ

هُنا الجَمالْ

يا أَيُّها المُتَجَبِّرونَ فَهَلْ ذَكَرْتُمْ وَعْدَ رَبِّ الشَّمْسِ لي

قَبْلَ النَّدامَةِ في المَراغَةِ.. حِينَ قَدْ يُجْدي اذِّكارْ؟

ماذا طَلَبْنا غَيْرَ صَونِ كَرامَةِ الوَرْدِ الكَريمِ مِنَ الغُبارْ؟

ماذا أَرَدْنا غَيْرَ خُبْزٍ في الصَّباحِ وَغَيْرَ خُبْزٍ

في الظَّهيرَةِ ثُمَّ خُبْزٍ في المَساءِ بِلا انْتِظارْ؟

ماذا طَلَبْنا غَيْرَ سَهْلٍ أَخْضَرٍ في روحِنا

لِنَرى الصَّحارى يانِعاتٍ كَالنُّجومِ وَكَالمَحارْ؟

ماذا أَرَدْنا دُونَكُمْ غَيْرَ الإِرادَةِ

أَنْ نَرى بِعُيونِنا شَيْئًا عَمينا عَنْهُ في عِزِّ النَّهارْ؟

ماذا أَرَدْنا غَيْرَ أَنّا الآنَ أَحْرارًا وُلِدْنا

قَبْلَ فَجْرِ الإِنْفِجارْ؟

نَحْنُ الّذينَ اسْتَعْبَدَتْهُم بَعْرَةُ التّاريخِ

واخَجَلاهُ مِنْ تاريخِنا

سيُكَذِّبُ الأحْفادُ يَوْمًا صِدْقَ ما كَتَبَ المُؤرِّخُ

عَن وَضاعَتِنا طَويلًا في انْتِظارِ الإِنْتِظارْ!

.. نَحْنُ الَّذينَ اخْتارَهُمْ رَبُّ التَّواريخِ الجَديدَةِ

شَعْبَهُ فَوْقَ السَّفينِ

سَيَفْخَرُ الأَحْفادُ في قَمَرٍ بِوَرْدَتِنا الَّتي هَزَمَتْ

جُيوشًا مِنْ خُرافاتٍ ومِنْ عَفَرٍ وَعَارْ

وَبَنَتْ عَلى صَخْرِ الجِراحِ

طَريقَنا العالي

إِلى شَجَرِ البِذارْ

فَلَنا عَلى شَطِّ الجَحيمِ

لَنا عَلى مَوْجِ الغُيومِ

لَنَا عَلى ثَلْجِ الرَّمادِ

دَمٌ وَغارْ

وَيَدٌ وَدارْ

وَغَدٌ وَنارْ!

الاثنين، 10 أكتوبر 2011

مِثْلَ قَصيدٍ جديدٍ / سامر خير (إلى سميح القاسم)


نُحِبُّكَ.. مِثْلَ أَبينا

وَقَدْ لا نُحِبُّكَ.. مِثْلَ أَبينا،

وَلكِنَّنا إِنْ ذَكَرْنا نَدًى مِن سُيُولِكَ يَوْمًا،

نَسينا

جَفاءَ سِنينَ وَمَحْلَ سِنينا



كَأَنَّ طُيورَ قَصائِدِنا

وُلِدَتْ فَوْقَ ريشِ جَناحَيْكَ

زَوْبَعَةً في مَحارٍ يُخَبِّئُ غَيْمًا سَجينا

.. فَخُذْ بِحَنانِ يَدَيْكَ

فِراخَ الزَّوابِعِ

إِنْ فَتَحَتْ كَالجِراحِ مَناقيرَها

.. وَإِنْ كَبُرَتْ وَاكْتَسَتْ بِنَسيمِ الشَّوارِعِ

في حُزْنِ غاباتِها

ثُمَّ صارَتْ تُجادِلُ فيها عَصافيرَها

فَلا تَتَضايَقْ

وَقُلْ مِثْلَها كُنْتُ يَوْمًا نَدى

مِثْلَها كُنْتُ يَوْمًا صَدى

مِثْلَها كُنْتُ يَوْمًا جَنينا

وَلا تَنْسَ لا تَنْسَ

أَنّا نُحِبُّكَ مِثْلَ أَبينا



لَقَدْ صَحَّحَ الدَّهْرُ هَفْوَةَ أَهْلِكَ

حينَ دَعَوْكَ سَميحْ

وَأَنْتَ سَميحٌ. وَلكِنْ

أَما كُنْتَ تَعْبُرُ جُلْجُلَةَ الشِّعْرِ مِثْلَ مَسيحْ؟

وَمُنْذُ كَتَبْتَ، دَواتَكَ كانَتْ جِراحُ المَسيحْ؟

دُموعُ صَغيرٍ بِأَفْريقِيا إِنْ بَكى

فَمِنْ قَلْبِ عَيْنَيْكَ سَيْلًا تَسيحْ

وإنْ في الشّمالِ وَإِنْ في الجَنوبِ

التُّرابُ اشْتَكى

فَمِنْ قَلْبِكَ السَّمْحِ تَنْزِفُ غَيْمًا

وَرَعْدًا وَبَرْقًا وَريحْ

وَإِلّا إذا نامَ آخِرُ طفْلٍ حزينٍ

سَعيدًا

فَلا تَسْتَريحْ

.. هُوَ الشِّعْرُ تَفْدي بِهِ العالَمينَ

بِروحِكَ. هَلْ بَعَثَ الشِّعْرُ مَيْتًا؟

وَهَلْ عَمَّرَ الشِّعْرُ بَيْتًا؟

وَهَلْ قالَ: كُنْ. ثُمَّ كانَ الصَّحيحَ المُعافى

المَريضُ الجَريحْ؟

سَأومِنُ مِثْلَكَ إنْ أَسْتَطِعْ

أَنّهُ لم يكُن باطِلًا قَبْضَ ريحْ



نُحِبُّكَ قَدْرَ الّذي أَنْتَ أَحْبَبْتَنا

وَمِنْ ظُهْرِ أَعْمارِنا

لا نُطِلُّ عَلى عَصْرِ عُمْرِكَ

بَلْ صُبْحِ عُمْرِكَ

يا طالِعًا كُلَّ آخِرِ لَيْلٍ كَشَمْسِ الصَّحاري

سَتَهْمِسُ ما قالَهُ المُتَنَبِّي: إذا ما مرِضْتُ

فَما مَرِضَت وَرْدَتي وَاصْطباري

وَما أَنْتَ بِالمُتَنَبِّي كَما قُلْتَ يَوْمًا

وَما أَنا.. لكِنَّ ثَلْجَ القَصائِدِ داري وَناري

.. نُحِبُّكَ قَدْرَ الَّذي أَنتَ أَحْبَبْتَنا

وَنَأْبى الرَّحيلَ عَنِ الأرْضِ في الأَرْضِ

مِثْلَ البِذارِ

ونَأْبَى الظَّلامَ وَلَوْ سَدَّدَ الدَّهْرُ

أَمْراضَهُ كُلَّها نَحْوَ شَمْسِ النَّهارِ

وَإنْ جِئْتَنا

لَأَلْفَيْتَنا في انتظارِكَ مِثْلَ قَصيدٍ جديدٍ

عَلى وَرَقِ الإنْتِظارِ



نُحِبُّكَ مِثْلَ أَبينا

وَنَرْسُمُ بِالرِّيشِ والحِبْرِ وَالرِّيحِ

فَوْقَ نُجومِكَ بَدْرًا

وَنَبْقى نُحِبُّك مِثْلَ أَبينا

وَنَرْعى أَعاصيرَ حُزْنِكَ فينا

وَفي صَخْرَةِ الدَّهْرِ

حَتّى تَلينا

وَلَوْ ظَلَّ مِنْ شِعْرِنا رَمَقُ الفَجْرِ

لَنْ نَسْتَكينا
وَنَبْقى نُحِبُّكَ مِثْلَ أَبينا

الاثنين، 3 أكتوبر 2011

عصفور صفورية الغِرِّيد.. وداعًا / بقلم: سامر خير


رَحَل عصفور صفورية الغِرِّيد بذكراها والحنين إلى بيوتها وأزقَّتها وأهلها وأفراحها وأحزانها في لوحةٍ من الماضي طالَما رَسَمَها أمام عينيه كأنَّها مَشْهَد مستقبلي يستَشْرِفُهُ، فيغلبه الحزن كُلَّما اكتشف أنَّهُ لا يقبض سوى على ماء.

طه محمد علي، الطفل الكبير كُنتُ أسمِّيه، وما زلتُ أُسَمِّيه. أتخيَّل الموت يحضنه الآنَ كأبٍ حانٍ أو كأُمٍّ حانية، لأنّ براءة طفولته لا بُدَّ أن تقوى حتى على الموت، رغمَ تجاعيد جبينه التي كانت توحي بأنّه عمَّر أكثر من سيّدنا نوح.

ما سرُّ نجاح قصيدة طه محمد علي في النفاذ عبر الجلد السّميك المُتَمْسِح في أيّامنا إلى جُرحِ القلب مباشرةً؟ لستُ ناقِدًا لأحاول الإجابة عن هذا السؤال، ولستُ بشاعِرٍ في هذه العُجالَة لأحاوِل الغَوْص في أعماقِ قصائده العذبة باحثًا عن منبع خلودها. لكنّني أظنّ أنها البَساطة وأنَّهُ الصدق وربّما السّذاجة –الممقوتة في أيّامنا– هي التي مكَّنَتْهُ من اجتراحِ معانيه التي يظنّ المرء أنها كانت ملقاةً دائمًا على قارعة الطريق. كيفَ كانت كذلك وهو الوحيد الذي استطاعَ التقاطَها؟ هل يستطيع الجاحظ أن يجيب على هذا السؤال؟

هل رأيْتَ أعمَقَ من هذه البساطة عندما كتَبَ في إحدى قصائده:

“لو رأيتَني وأنا أحترق

لما عرفتَني يا سيِّدي!

أيُّ حُزنٍ هذا

الذي لا تُذيبُهُ النِّيران؟!

لو دَنَوْتَ مِنِّي وأنا أصرخ

لألفيْتَني وجْدَ غمام

تتداوله السَّموم

أيُّ فجيعةٍ هذه

التي لا يُجمِّدُها الصقيع؟!”

سيبقى أبو نزار حاضرًا عندي. كانَ مُقِلًّا في الكتابة، ولكنّ القليل الذي بناه بحجارة صفورية العتيقة يبدو لي أمتَنَ من بنايات حديثة من خمسين أو ستِّين طابقًا بناها سواه وزيَّنها بأرقى أنواع حجارة مآسي وعذابات الآخرين. رُبَّما السرّ إذًا هو في التجربة الصادقة.

ولأَنَّ طه محمد علي كان كذلك، فقد “غفرنا” له مشاركته في مهرجان الشعراء العالمي الإسرائيلي في القدس بتاريخ الخامس من حزيران عام 1999. وقتها كنتُ أنا أحد الشعراء العرب الذين قاطعوا هذا المهرجان، بسبب توقيته، وبعد إعلان عدد من الشعراء العبريّين على رأسهم مئير فزلطير ويتسحاك لاؤور عن مقاطعتهم للمهرجان وكتبوا أنه “لا ينبغي للشعراء أن يحضروا إلى مدينة يتم فيها انتهاك حقوق الإنسان برعاية السلطات، حيثُ يُطَرَدُ الفلسطينيون من بيوتِهِم وبيوتُهُم تُهدَم”. فكيف لشاعر عربي فلسطيني أن يُشارِك في مهرجان كهذا يقاطعه حتى الشعراء اليهود؟!

هل هي سذاجة حقًّا؟ أم هو التَّسامُح الإنساني؟ فأيّ وَقْعٍ أَقوى من قصيدة تُدينُ تاريخ سامِعِها وتقولُ له في وجهه: أُنْظُرْ ماذا فعلْتَ بي؟! هل من شيءٍ أشدّ وقعًا من الغفران والتسامح على قلبِ من أساءَ إليْك؟! أنظُرُ الآنَ إلى الوَراء وأقولُ رُبَّما كانَ أبو نزار على حقّ. كان قبل المهرجان طه محمد علي، وبقيَ بعد المهرجان طه محمد علي. هل كانَ مُخْطِئًا؟ أم كانَ شُجاعًا لأنَّهُ لم ينْتَمِ إلى أي إطارٍ حزبيٍّ؟ أم أنّ البراءةَ أخذَتْ منه كُلَّ مأخَذ؟

ينسَحِبُ هذا الكلام كذلك على الاحتفاء الذي حظيَ به في الولايات المتحدة الأمريكية بترجمة عدد من كتبه التي بيعَت هناك بعشرات آلاف النسخ ونفدت طبعاتها المتتالية. كأنَّهُ يطلّ الآن على منتقديه ويقول: “ما يْكُونْ؟!” so what. هَل غيَّرْتُ مسامةً واحدةً مِن جِلدي يا جماعة؟ فكيفَ يقولُ بعضُكُم إنَّهُم استغلُّوا شعري لتجميل صورة الفلسطيني الهندي الأحمر الباقي في أرضِهِ في حدود دولة إسرائيل؟! ما الخطأ في أن تصرخ صفورية متألِّمةً من أوجاعها في أمريكا؟!

.. يا عصفورَ صفورية الغِرِّيد بأوجاعها وداعًا. لن أنسى هذا الجبَل الحزين، الذي تطلُّ من عينيه وردتا فَرَحٍ عظيم كُلَّما تبَسَّم. قُيِّضَ لي أن نُشارك معًا قبل أكثر من 7 أعوام في مهرجان شعري بمدينة لئون في شمال إسبانيا. قالَ لي إنّ صفورية تبدو له كأندلُس صغيرة. حقًّا أيُّ فجيعةٍ أشدُّ من هذا الوصْف؟ رافقْتُهُ هُناكَ على حقيقته وعلى سجيَّتِهِ وهو الكَهْلُ المُتْعَب لأكْتشِفَ كم من جبالِ الحُزنِ يخبِّئ خلفَ عينيه المشرقتين، وكم من القَلَق والخَوف، وكَمْ من الأملِ أيْضًا. اعتنينا به –غيري وأنا– كأبٍ وجَدٍّ، طوالَ هذه الرحلة، واعتنى بنا بما يبُثُّهُ من نكتةٍ ومرح وكلام خفيف الظلّ. وكانَ لي الشرف أن تكون قصائده جارةً لقصائدي المتواضعة في أنطولوجيا باللغة الإسبانية لعدد من الشعراء المحليين أعدَّها الشاعر الإسباني الكبير كارلوس موراليس.

سأجدُك يا أبا نزار في حانوتك كُلَّما قصدْتُ سوقَ الناصرة القديم. سأجدُك ما زلتَ هُناكَ رغم رحيلك، تتكئ على عكاز البقاء، بقاء الكلمة التي كانت في البدء. لن نسمح لك بأخذِ كلّ براءتك معك، ولن نسمَح لك بأن تأخذ ما تبقّى من الصدق كلّه معك. نحن بحاجةٍ للقليل منه وللقليل منها كي نقول ما نريد أن نقول. فكُن كريمًا علينا، ولا تبخَلْ بما بخلنا به نحن على أنفسِنا.

سأجدك أيضًا في بيتك الجميل الدافئ. أعرف أشدّ ما يخيفك من الموت منذُ كتبْتَ بكلّ بَساطَة:

“ما أعجز فعلاً عن وصفه

في موتي

هو فقط

هذه الرعدة التلقائية

المدمرة

التي تجتاحنا….

عندما نؤمن ونحن نموت

أننا سننقطع عن أحبائنا

بعد قليل

فلا نراهم

ولا نستطيع حتى مجرد التفكير بهم”.

أليْسَت أم نزار وأولادكما أحبَّ أحبائك إليك؟

أم نزار، هذه الملاك الحنون؛ لا أعرف الآن هل كانت زوجتك أم كانت أُمَّك. مرَّةً واحدةً فقط زُرْتَني، ومرّتيْنِ فقط زرتُكَ في بيتك، إحداهما كانت زيارة طويلة، تخلّلها غداء على مائدة بيتك العامر. كم غبطتُك عليها -وأنا الشابّ- وهي تحنو عليك أيها الطفل الكبير– وأنتَ الكَهْل. إنّ طفلًا مثلك نسيَ أن تكبر روحه كالآخرين كان بحاجة لامرأةٍ كأمّ نزار تمامًا.

يا عصفور صفورية الغرّيد بأوجاعِها، ربّما كنتَ ترانا وتسمعنا الآن، وتقولُ: آهِ كم كنتُ أعمى!

لم تكُنْ أعمى، بل كان الليلُ مُسْدِلًا سدوله المظلمة.

فإلى اللِّقاءِ ولَوْ بَعْدَ حين.

الثلاثاء، 26 يوليو 2011

قَصائِد لِأزهار الخراب


25 يناير



مُنْذُ الخامِسِ وَالْعِشْرِينْ

مِنْ شَهْرِ يَنايِرْ

صارَ الإِسْمُ الشَّائِعُ في العَالَمِ

وَالْإِنترْنِتْ

"ثَائِرْ"

لِلصُّبْيانِ، وَ"تَحْريرٌ"

لِلْبِنْتْ

أَسْماءٌ لا تَمْحُو أَسْماءَ البَحْرِ

وَلا أَسْماءَ الصَّحْراءِ

وَلكِنْ

تَمْخُرُ في البَحْرِ الواحِدِ وَالْعِشْرِينْ

مِنْ مِصْرَ وَتُونُسَ

حَتّى لُنْدُنَ

مِنْ صَنْعاءَ إِلى واشنْطُنَ

حَتّى الصِّينْ







حَتّى لَوْ



حَتّى لَوْ

لَمْ يَتَبَقَّ لَدَيْنا إِلّا قَطْرَةُ ماءْ

حَتّى لَوْ

لَمْ يَتَبَقَّ لَدَيْنا إِلّا قَطْرَةُ دَمْ

حَتّى لَوْ

لَمْ يَتَبَقَّ لَدَيْنا إِلّا عَظْمَةُ أصْبَعْ

لَنْ يُجْديكَ..

عَقَدْنا العَزْمْ

أَنْ نَهْزِمَ أَنْيابَ المدْفَعْ

كُلُّ أَكاذيبِكَ لَنْ تَنْفَعْ

كُلُّ أَعاجيبِكَ لَنْ تَنْفَعْ

إِسْمَعْ

حَتّى لَوْ

لَمْ يَتَبَقَّ سِوى أَصْداءٍ

وَانْبَحَّ الصَّوْتْ

حَتّى لَوْ

لَمْ يَتَبَقَّ سِوى نافِذَةٍ

وَانْهَدَّ البَيْتْ

حَتّى لَوْ

لَمْ يَتَبَقَّ سِوى حشْرَجَةٍ

ما قَبْلَ المَوْتْ

لَنْ يُجْديكَ..

عَقَدْنا العَزْمْ

أنْ نَهْدِمَ تِيجانَ الظُّلْمْ

قُمْنا بِالمَوْتِ مِنَ المَوْتْ

يا فانٍ يا عابِرُ.. أَنْتْ!

أَمّا نَحْنُ

فَأَهْلُ البَيْتْ







لا تَذْهَبُوا إلى البَيْت



لا تَذْهَبُوا إِلى البَيْت

لَمْ يَسْقُطْ سِوَى قِشْرَةِ الظَّلام

لا تَذْهَبُوا إِلى البَيْت

تَحْتَ خُطاكُمْ تَزْحَفُ حُفَرُ الحُطام

لا تَذْهَبُوا إِلى البَيْت

فَخَلْفَ غُيُومِ الثَّوْرَة

يَتَخَفّى جَرادُ الْأَعْراب

وَيَتَلَوّى حَدِيدُ الأَعْجام



أَكْسِرُ الوَزْنَ وَالقافِيَة

لِأَطِيرَ مَعَ سِرْبِ الشَّجَرِ العالِي

الَّذِي اسْتَبْدَلَ جُذُورَهُ بِأَرْجُلٍ

وَأَجْنِحَةٍ وَأَوْرَاقَهُ بِجَحْفَلٍ

مِنَ الفَرَاش.



أَكْسِرُ الوَزْنَ وَالقافِيَة

لِأَنَّ فَيَضانَ النِّيلِ أَغْرَقَ رُموزَ البَلاط

وَلِأَنَّ القائِدَ الأَعْظَمَ

وَالشَّاعِرَ الَّذي سَيُنْسِينا المُتَنَبِّي

ما زَالا يَحْبُوَانِ وَسْطَ عَبِيرِ الحَرائِق

.. أَبَدًا هكَذا

لَيْسَ مِنْ تَوَقُّفٍ في عُرْفِ النِّيل

لَيْسَ مِنْ مَوْت

وَقَدْ مُتْنا كِفايَة

.. لا تَذْهَبُوا إِلى البَيْت







صَلاحُ الدِّين



صَلاحُ الدِّين كانَ بِالفِعْلِ

في هذا السَّهْلِ

وَلَمْ يَكُنْ زُجاجَ أُسْطُورَةٍ مِنْ صُنْعِ الشُّعَراء

.. رغْمَ أَنَّ جيراني كُلَّهُم في قَرْيَتي المَغار

يَصِفُونَ بِالتَّفْصِيل كَيْفَ قَفَزَ وَهُوَ يَمْتَطي حِصانَهُ

قفْزَةً عَجيبَةً كَالنَّسْرِ عَلى سُفُوحِ جَبَلِ حِطِّين

(الَّذِي يَزُورُونَهُ الْيَوْمَ

لِلتَّبَرُّكِ بِأَثَرِ قَدَمِ النَّبِيِّ شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلام)

.. فَلْتَنْسجُوا عَن صَلاحِ الدِّينِ ما شِئْتُم مِن أَواني الزُّجاج

لكِنْ يا أَصْحابَ الحُزْنِ انْسوهُ

فَقَدْ تَخِمَ مَوْتًا مُنذُ آلاف الشَّظايا

وَلَنْ يَعُود

وَحِصانُهُ أَيْضًا لَنْ يَعُود







نَمِرٌ في الحَديقَة



لا أُرِيدُ مِنَ الغَيْمِ إِلّا ظِلَّهُ

وَمِنَ النَّجْمِ إِلّا لَيْلَهُ

وَمِنَ العِلْمِ إِلّا جَهْلَهُ

وَمِنَ الصَّحْوِ إِلّا أَن أَنامَهْ

.. هكَذا قالَ قَبْلَ دَقَائِقَ مِنْ فَقْدِهِ

نَمِرٌ في الحَديقَةِ

جِيرانُهُ بَطَّةٌ، وَزَّةٌ وَنَعامَهْ







لا بُدَّ مِنْ عَقْل



حِينَ نُقْبِلُ مِثْلَ الخُيُولِ

عَلى جَبَلِ الحُبِّ أَوْ سَهْلِهِ

في سَماءِ الحَبيبَةِ

لا نَتَساءَلُ عَمَّا وَراءَ الجَبَلْ



.. حِينَ نُقْبِلُ كَالنَّحْلِ في الحَقْلِ

نَحْوَ الزُّهُورِ المُضِيئَةِ في اللَّيْلِ

لا نَتَساءَلُ عَمَّا وَراءَ العَسَلْ



يا رِفاقي

.. وَلكِنَّنا إِنْ غَضِبْنا وَثُرْنا

فَلا بُدَّ لِلْعَقْلِ

في نَشْوَةِ الفِعْلِ

أَنْ يَتَساءَلَ عَمَّا وَراءَ الأَمَلْ







صَباحُ الثَّوْرَة



يُزْهِرُ اللَّوْزُ في كُلِّ عامٍ

وَلكِنَّ نُوَّارَهُ اليَوْمَ أَجْمَلْ

تُشْرِقُ الشَّمْسُ في كُلِّ صُبْحٍ كَعادَتِها

إنَّما نُورُها صارَ أَجْمَلْ

وَالْهَواءُ الَّذِي كَمْ شَهِقْنا عَصافِيرَهُ

صَارَ أَجْمَلْ

كُلُّ شَيْءٍ كَما هُوَ

لكِنَّهُ رُغْمَ هذَا تَبَدَّلْ

.. إِنَّ في الأَمْرِ سِرًّا

وَلكِنَّنا لا نَحارُ

وَلا نَتَقَصَّى وَنَسْأَلْ





ألغَد



قَالَتْ: لِمَنْ تَكْتُبُ؟ قُلْتُ:

لِلْغَدِ الآتِي عَلى أَكْتافِهِم

وَلَيْسَ لِلتَّابُوتِ يَحْمِلُونَهُ إِلى التُّرَابْ

.. لا شَأْنَ لِي في الوَهْمِ لا

وَلا السَّرابْ

لا شَأْنَ لي في ما يَخُطُّهُ الخَيالُ

في كِتابْ

فَالشَّأْنُ كُلُّ الشَّأْنِ في

ما بَعْدَ أَزْهارِ الخَرابْ